موقع الشيخ عبد الحق التركماني - غلاة التبديع والسقوط الأخلاقي

/ 29 مارس 2024

للتواصل 00447432020200

غلاة التبديع والسقوط الأخلاقي

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 7 فبراير 2011 1743

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

في صدر شهر شوال من العام المنصرم (1431) زار إحدَى العواصم الأوربية عالم فاضل، وشيخ جليل، من أساتذة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان المفترض أن يكون في مقدمة مستقبليه أولئك الذين تخرجوا من تلك الجامعة الموقرة، لأنهم كانوا من تلامذتها وطلابها، والضيف من شيوخها، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان درَّسهم على وجه الخصوص أو لم يدرِّسهم، خاصةً من هداهم الله تعالى إلى الإسلام، وزادهم من فضله ونعمته فيسَّر لهم الالتحاق بتلك الجامعة، فتعلموا اللغة العربية، ودرسوا التوحيد والسنة، وحظوا برعاية كريمة من المسؤولين في المملكة العربية السعودية ـ حرسها الله ـ، ومن العلماء والأشياخ وطلبة العلم فيها، زادهم الله فضلاً، وحفظ عليهم تميُّزهم بدعوة التوحيد والسنة، ونفع بهم العباد والبلاد.

نعم؛ كان ذلك هو المفترض، بل الواجب شرعًا وخُلقًا ومروءةً، لكن للأسف الشديد لم يقوموا بذلك الواجب، بل قابلوه بالإعراض والإهمال والتجاهل، ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا أوامرهم إلى جميع مريديهم بعدم حضور مجالس الشيخ ومحاضراته، وامتثل المريدون أمر شيوخهم، فهم بين أيديهم كالميت بين يدي الغاسل، ولولا أن الله تعالى ميَّز أحدَ الفضلاء ـ وهو أيضًا من خريجي الجامعة الإسلامية ـ بالاستقامة والعقل والوفاء والخلق الرفيع؛ لمَا وجَدَ الشيخ من يستقبله ويقوم بحقِّ المسلمين في الاستفادة منه، وينسق له جولته الدعوة!

ومن المؤسف حقًّا أن يُخرَّج هذا التصرف المَشين، والسلوك المزري باسم: (العقيدة) و(السلفية) و(المنهج)، إذ يحسبُ أولئك الشباب العَقَقَةُ أنَّهم يحسنون صنعًا؛ فهم أنصار السنة، وحماة العقيدة، والغرباء القابضون على الجمر، ومن سواهم فأهل التمييع والتفريط والتلون في دين الله تعالى!

ويزدادُ المرءُ أسفًا وحزنًا إذا اكتشف أن مفهوم (العقيدة) و(السلفية) و(المنهج) ليس عند أولئك الشباب بالمعنى الذي يفهمه أهل العلم والسنة في كل زمان ومكان، فليس بينهم وبين شيخهم الذي عقوه خلاف في شيء من مسائل الاعتقاد ومنهاج أهل السنة، لا في الأصول ولا في الفروع، بل أكاد أجزم أن لا خلاف بينهم وبينه في عامة الفروع من مسائل الفقه، وإنما الخلاف منحصر في الولاء والبراء على رأي شيخٍ معيَّنٍ في شيخٍ معيَّن، وعلى رأيه في مسائل من الأحكام التفصيلية الجزئية المتعلِّقة بفقه التعامل مع المخالف، ذلك أن شيخهم الأكبر ـ الذي يتعصبون لرأيه، ويشدُّون وسطهم له ـ يبدِّعُ جماعةً من أعيان أهل العلم والسنة، ويخوض في تلك المسائل بغلوٍّ وفضاضة وتشدُّد غير محمود، فكان من اختيار شيخهم الذي عقُّوه: أنَّ تبديع بعض أولئك الأعيان بعيدٌ عن الصواب، وأن الخوض في المسائل التفصيلية الجزئية يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم، ولا بغلوٍّ وتنطُّع وتفريق بين أهل السنة وإثارة للفتن بين طلبة العلم وعامة الشباب. وهو غير منفرد باختياره هذا؛ بل يوافقه عليه كبار العلماء، وأجلَّة المشايخ، والعلية من طلبة العلم؛ في مشارق الأرض ومغاربها.

ولو فرضنا أن هذا الشيخ الجليل قد أخطأ في قليل أو كثير من مسائل العلم، بل وقع في البدعة، وضلَّ سبيل الهدى ـ أعاذه الله من ذلك، وأدام عليه نعمة الثبات والاستقامة ـ فهل يجوز ـ ديانةً وأخلاقًا ـ أن يقابل بذلك العقوق، ونكران الجميل، والإساءة الشخصية لضيف له حقُّ القِرى وحسن الاستقبال؟! فوالذي نفسي بيده: لو أني كنت أحد خريجي تلك الجامعة الموقرة، وحلَّ في ساحَّتي أستاذ من أساتذتها ـ لا أعرفه ولا يعرفني، ولم يلتحق بالجامعة إلا بعد تخرجي ـ؛ لاستقبلته في المطار بكل حفاوة وتكريم، وفاءً للجامعة واعتزازًا بالانتماء إليها، فكيف إذا كان رأسًا من رؤوس أهل السنة؟

فما أقبح منهج الغلو عامة، ومنهج الغلو في التكفير والتبديع خاصة؛ لقد فقد أصحابُه أخلاقَهم، ومُسخَتْ فطرُهم، وشوِّهتْ تصوراتُهم وأفكارُهم!

إنَّ هذا التصرُّفَ السيِّئ يجبُ أن لا يمرَّ دون تفكير عميق في هذه الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها بعض الشباب المسلم، وفيهم متعلِّمون تخرَّجوا من أرقى الجامعات الإسلامية، ويتصدرون اليوم للدعوة في كثير من البلاد.

إنني لم أكتب هذه المقالة دفاعًا عن شخص أو ذمًّا لآخرين، بل قيامًا بواجب تشخيص الداء، والإنذار عن وباء مدمِّر للأخلاق، فأرجو من إخواننا العلماء والمشايخ والدعاة أن يتناولوا هذه الظاهرة الخطيرة بالدراسة الجادة، وينهضوا بما يجب عليهم من السعي المباشر والحثيث للتصحيح والإصلاح والتقويم، ولا يلتفتوا إلى إرهاب غلاة التبديع بأحكامهم الجائرة، ومقالاتهم القبيحة.

ولا بدَّ من إبراز منهج السلف الصالح وأئمة الدين في التعامل مع أهل البدعة ـ الذين هم أهلها حقيقة، فكيف بمن يُرمى بالبدعة ظلمًا وعدوانًا؟! ـ وأهم معالمه: العلم، والعدل، والأدب، والصدق، والوفاء، والإنصاف، والرفق، والرحمة، وتلمس الأعذار، والحرص على إيصال الخير إلى الناس أجمعين، وأصل ذلك في كتاب الله في مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35]، وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وفي أمره عزَّ وجلَّ من ابتلي بوالدين مشركين يصدانه عن سبيل الله بحُسن معاشرتهما إذا قال سبحانه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]؛ فكيف بمصاحبة أهل الإيمان والعلم والسنة والفضل والإحسان؟ وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ وغيره من العلماء ـ أنَّ ميزان أهل السنة في علاقتهم بالناس أجمعين قائم على أصلين كليَّين جامعين: (بيان الحق، ورحمة الخلق). والأمثلة العملية على هذا كثيرة جدًّا، مبثوثة في كتب التاريخ والسير والتراجم وغيرها، وهي عن أئمة أعلام لن يجرؤ هؤلاء المبتدؤون على اتهامهم بالجهل والانحراف وعدم الغيرة على العقيدة وبالتمييع والتفريط والتلون.

وإليكم مثالًا واحدًا من سيرة الإمام الهمام، ناصر السنة، وقامع البدعة، شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية الحنبلي رحمه الله تعالى، ففي سنة (711) قام عليه جماعة بجامع مصر قد تعصبوا عليه، وتفردوا به، وضربوه، وانتشر الخبر بين الناس، فجاء خلق كثير من محبِّيه والعارفين بفضله رجالًا وفرسانًا يسألون عن الشيخ، واجتمع عنده جماعة، وتتابع الناس، وقال له بعضهم: يا سيدي! قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا! فقال لهم ابن تيمية: لأي شيء؟ قال: لأجلك! فقال لهم: هذا ما يحقُّ. فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم، ونخرب دورهم، فإنهم شوَّشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس! فقال لهم: هذا ما يحلُّ، قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل؟ هذا شيء لا نصبر عليه، ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا! والشيخ ينهاهم ويزجرهم، فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حلٍّ منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم! وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء. قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم ؟! قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه!! قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق، فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم؟! فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون، فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر. فلما قال لهم ذلك قالوا: فقم واركب معنا حتى نجيء إلى القاهرة. فقال: لا. وسأل عن وقت العصر فقيل له: إنه قريب. فقام قاصدًا إلى الجامع لصلاة العصر. فقيل له: يا سيدي قد تواصوا عليك ليقتلوك، وفي الجامع قد يتمكنون منك، بخلاف غيره، فصلِّ حيث كان، فأبى إلا المضي إلى الجامع والصلاة فيه، فخرج وتبعه خلق كثير لا يرجعون عنه فضاقت الطريق بالناس… ثم مشى قاصدًا للجامع والناس يقولون: هنا يقتلونه! الساعةَ يقتلونه! فلما وصل إلى الجامع قيل: الساعةَ يُغلق الجامع عليه وعلى أصحابه ويقتلون. فدخل الجامع فصلى ركعتين فلما سلم منها أذن المؤذن بالعصر فصلى العصر ثم افتتح بقراءة الحمد لله رب العالمين، ثم تكلم في المسألة التي كانت الفتنة بسببها إلى أذان المغرب. فخرج أتباع خصومه وهم يقولون: والله لقد كنا غالطين في هذا الرجل لقيامنا عليه، والله إن الذي يقوله هذا هو الحق، ولو تكلم هذا بغير الحق لم نمهله إلى أن يسكت، بل كنا نبادر إلى قتله، ولو كان هذا يبطن خلاف ما يظهر لم يخف علينا. وصاروا فرقتين يخاصم بعضهم بعضًا. [العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبد الهادي، ص: 301].

سبحان الله! ما أعظمَ الفرقَ بين المثالين! شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعفو ويصفحُ عمَّن اعتدى عليه ظلمًا وعدوانًا، وينهى أتباعه عن مقابلة إساءتهم بمثلها، ويلتمس الأعذار لهم، ويعتقد فيهم أنهم قد يكونون مأجورين مثابين على صنيعهم، ثم يصرُّ على الصلاة معهم، جمعًا للكلمة، وبيانًا للحقِّ، ورحمة بالمخالفين، ودفعًا للفتنة،… وغلاةُ التبديع يحلُّ شيخهم ـ الموحِّد السنيُّ الفاضل ـ ضيفًا عليهم في مدينتهم؛ فيقابلونه بالعقوق والهجر والتنفير عنه. فأيُّ سقوط أخلاقي أعظم من هذا السقوط؟ اللهم سلِّم! اللهم سلِّم!

كتبه:

عبد الحق التركماني

4/3/1432

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد